دير الزور: «ديْن في الرقبة» أم ملف مؤجل؟
24. ديسمبر 2025
يُعترف بدير الزور في الخطابات، لكن تُترك عملياً لمصيرها، لتغدو الاختبار الأوضح لما إذا كانت وعود سوريا ما بعد الحرب تعني شيئاً فعلاً أم لا.
ليست دير الزور مدينة نائية عن الجغرافيا السورية، لكنها بعيدة، على ما يبدو، عن خريطة الأولويات لدى السلطة الحالية. فبينما يتركّز الاهتمام السياسي والخدمي والاقتصادي في المركز، وتحديداً في العاصمة وبعض المحافظات الكبرى، تبقى هذه المدينة الشرقية، بكل ثقلها البشري والتاريخي، عالقة في هامش الدولة، كأنها تفصيل جغرافي لا يستحق سوى الحد الأدنى من الالتفات.
في أكثر من مناسبة، أقرّ الرئيس أحمد الشرع بثقل هذا الغياب، وذهب أبعد من الاعتراف حين قال إن «دير الزور ديْن في رقبتنا». وهو تصريح يحمل دلالة أخلاقية وسياسية واضحة، ويعكس وعياً بحجم ما قدّمته المدينة وما تحمّلته خلال سنوات الحرب. غير أن الإشكالية لا تكمن في الخطاب ذاته، بل في الفجوة الواسعة بين هذا الاعتراف العلني، والواقع المعيشي والخدمي الذي لا يزال يشي بأن هذا «الديْن» لم يبدأ سداده بعد.
مفارقة لافتة
والمفارقة أن دير الزور، فضلاً عن ثروتها النفطية، تمتلك واحداً من أضخم مصادر المياه العذبة في سوريا، يجسّده نهر الفرات، إلى جانب روافده وأنهار أخرى كالخابور، إضافة إلى المياه الجوفية، والينابيع، والآبار. كما تُعدّ من أكثر المناطق السورية خصوبة زراعياً، وتملك ثروة حيوانية كبيرة، فضلاً عن موارد طبيعية أخرى كمناجم الملح والإسفلت وغيرها. أي أننا نتحدث عن محافظة تمتلك، نظرياً، كل مقومات النهوض الاقتصادي والتنمية المستدامة.
لكن الأهم من كل ذلك، هو الثروة البشرية. فدير الزور ليست أرض موارد فقط، بل أرض إنسان مبدع، مجتهد، يحمل إرثاً حضارياً طويلاً، تشكّل عبر تعاقب حضارات كبرى امتزجت في تكوين المنطقة: من البابلية والآشورية والسومرية، مروراً بالكنعانيين والفينيقيين والرومان والتدمريين، وصولاً إلى الإرث العربي الإسلامي، الذي لا يزال حيّاً في ثقافة المجتمع ووعيه وسلوكه. هذه الخلفية الحضارية تجعل من دير الزور أكثر من مجرد محافظة مهمّشة؛ إنها مخزون حضاري وإنساني كبير لم يُستثمر يوماً كما يجب.
أمام هذه الحقائق، يجد المرء نفسه في حالة ذهول وهو يقارن بين ما تمتلكه المدينة من مقومات، وما تعيشه اليوم من واقع مأساوي. ولا يقتصر الأمر على الضائقة الاقتصادية، رغم قسوتها، بل يتجاوزها إلى أزمات اجتماعية وسياسية وأمنية وخدمية وثقافية متراكبة، جعلت الحياة اليومية لسكانها أقرب إلى معركة بقاء.
دير الزور تُعد من أكثر المحافظات تضرراً خلال سنوات الصراع. ووفق تقديرات أممية متداولة، تجاوزت نسبة الدمار في بعض مناطقها 40% من المساكن والمنشآت العامة فضلاً عن آلاف العائلات التي لا تزال تعيش في بيوت مدمّرة جزئياً، أو في ظروف سكنية هشّة، في ظل غياب خطط شاملة لإعادة الإعمار، وفي الوقت ذاته، تُسجّل المحافظة واحداً من أعلى معدلات البطالة في البلاد، حيث تُقدَّر بين 35 و45%، مع ارتفاع لافت بين فئة الشباب.
وتزداد الأزمة تعقيداً حين نضعها في سياقها السياسي والأمني، فمرور أكثر من 14 عاماً من الأحداث، إضافة إلى الواقع الحالي الضبابي المرتبط بمستقبل المحافظة في ظل وجود قوات سوريا الديموقراطية «قسد» في جزء منها، يعرقلان عملية استعادة الدور الكامل للدولة السورية، يضاف إلى ذلك الدمار الهائل، وغياب الخدمات الأساسية، وهي ملفات تحتاج إلى جهود جبّارة وخطط طويلة الأمد، لا إلى معالجات شكلية ووعود حكومية تسويفية.
تُعد دير الزور إحدى الساحات المحتملة لنشاط تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» في حال عودته إلى العمل المنظم في سوريا، هذا الاحتمال، وإن لم يكن واقعاً يومياً، يظل عامل قلق دائم، ينعكس على الاستقرار، ويُستخدم أحياناً ذريعة لتأجيل التنمية بدل حمايتها.
الأفعال أبلغ من الأقوال
كل هذه العوامل المتشابكة لا تبشّر سكان دير الزور بإعادة إعمار قريبة، ولا بازدهار شامل في المدى المنظور، ما لم تُقارب أزمتها بوصفها قضية وطنية كبرى، لا ملفاً هامشياً يطوى في أدراج مكاتب الحكومة، فالتنمية المتوازنة ليست ترفاً، بل شرطاً أساسياً لبناء دولة مستقرة، وإذا كان الاعتراف بأن لدير الزور «ديْن في الرقبة» صادقاً، فإن ترجمته الوحيدة المقبولة هي سياسات ملموسة: إعادة إعمار حقيقية، إشراك فعلي لأبناء المحافظة في القرار المحلي، توزيع عادل للموارد، واستثمار جاد في الإنسان قبل الأرض.
إن استمرار تهميش دير الزور لا يهدد استقرارها وحدها، بل يضعف فكرة الدولة ذاتها، فالدولة التي تعجز عن ردِ ديونها المعنوية والمادية لأطرافها، تفتح الباب أمام فقدان الثقة والاغتراب الداخلي. وحين يشعر المواطن بأن مدينته خارج الحسابات، يصبح الانتماء هشاً، والفراغ السياسي والاجتماعي قابلاً للامتلاء بقوى لا تخدم المستقبل.
دير الزور ليست هامشاً ولا ملفاً مؤجلاً، إنها اختبار فعلي لمدى جدية السلطة في تحويل الاعتراف إلى فعل، والوعد إلى سياسة، فإما أن يُسدَّد هذا «الديْن» عبر العدالة والتنمية، أو يبقى مجرّد عبارة بليغة، تزيد من مرارة الانتظار، وتعمّق الخذلان.